إسهامات فكرية

وفاء للمعاني وتجديد للمباني

وفاء للمعاني وتجديد للمباني

  • 165
  • 0

وفاء للمعاني وتجديد للمباني
الأستاذ محمد الهادي الحسني

كُلما عزمت الذهاب لزيارة إخواني في وادي ميزاب تملكني سرور كثير، وغمرني حبور كبير، مما يذكرني بقول الإمام يحيى بن شرف النووي _رحمه الله_.
بشائر قلبي في قدومي عليهم
ويا لسـروري يوم سيري إليهم
وفي رحلتي يصفو مقامي وحبّذا
مقـام به حط الرحـال إليهم

إن تفسيري لذلك السرور، وتأويلي لذلك الحبور هو أنني أجد عند إخوتي من أهل الوادي المبارك ما افتقده في أكثر إخوتي من أنحاء وطني الأخرى، أجد اللسان العربي الفصيح والانتماء الصحيح، والخلق الإسلامي المليح، وكل أولئك مما كان عليه جميع الجزائريين قبل أن تمسخ فرنسا أكثرهم لسانا وبنيانا، وتشوههم لباسا وسلوكا، وقد صدق الرحالة الألماني "هاينريش فون مالتسن" الذي زار الجزائر في منتصف القرن التاسع عشر، ولاحظ هذه الجريمة الفرنسية، وتركها كلمة باقية في التاريخ لتلعن الأجيال القادمة، هذا المجرم الذي لم يسبق إلى نوع هذه الجريمة سابق، ولم يلحقه فيها لاحق، يقول ملتسن: "يبدو أن في الجزائر قانونا يقضي بأن يختفي كل ما هو جميل بأسرع ما يمكن... فنوع البناء الفرنسي ليس شنيعا فحسب، وإنما هو أيضا غير عملي في هذا البلد، وأجزم بذلك في الميادين كلها..".
وشيء آخر يحبب إليَّ هذه المنطقة من وطني وهو ما أراه مجسدا بين أبنائنا من تضامن حقيقي لا تهريجي، ونظام محكم وفعالية، وذلك كله يزيدني إيمانا مع إيماني ويطمئن قلبي بأن الإسلام الحنيف دين واقعي، ينتج مجتمعا مثاليا، وفي ذلك تسفيه عملي لتقَوُّل بعض أعداء الإسلام الأبعدين، ولبعض خصومه الأقربين الذين يشيعون عنه قالة، ظاهرها فيها الإعجاب بالإسلام وباطنها فيها المكر المسيء به وبأهله، وهذه القالة هي الإسلام دين مثالي، أي أنه جميل في ذاته، حسن في نفسه، ولكنه لا يصلح شرعة ومنهاجا لتنظيم حياة الناس المعقدة وحل مشاكلهم المتنوعة "كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا"، أهم أعلم من الله؟
إن وجود الإنسان في إحدى مدن ميزاب لا يخلو من استفادة علمية، ومتعة أدبية، فينشط الذهن، ويتنبه الفكر، وتنتعش الروح، وتتوقد العواطف، وينتشي القلب، وينشرح الصدر، وكل مناسبة اجتماعية في ميزاب (عرس أو مأتم) تتحول إلى مهرجان علمي أدبي تصدح فيه الأصوات الشجية بالكلمات الندية، وتتطاير المُلح اللطيفة فتضفي على النفوس بهجة، وتُلقى العظات المؤثرات فتُسيل العبرات.
لقد توجهت تلقاء مدينة القرارة يوم 29 من الشهر الماضي، تلبية كريمة من أستاذنا الفاضل بلحاج بن سعيد شريفي، رئيس جمعية الحياة بالقرارة لمشاركة إخوة أفاضل وأبناء أماثل في مهرجان جليل، حمل اسم مهرجان الوفاء الذي أقيم لتأبين علم من أعلامنا الميامين، وعالم من علمائنا العاملين وهو فضيلة الشيخ شريفي سعيد بن بلحاج (الشيخ عدون) الذي شرف الله مقامه بأن يسره لخدمة الدين والعلم، وأسعده بأن جعله مفتاحا للخير مغلاقا للشر، وأطال عمره وحسن عمله وطيب ذكره، وأبقى له بعد موته ثلثين من ثلاثة أثلاث لا ينقطع أجرها _إن شاء الله_ أبقى له علما نافعا نشره في آفاق الجزائر الرحبة، وأولادا صالحين يدعون له، وكلنا ندعو له ونستمطر شآبيب الرحمة على ثراه الطيب، بعدما قام بواجبه وأدى ما ائتمن عليه.
اختار القائمون على هذا المهرجان الذي تميز بالضخامة وامتاز بحسن التنظيم، اختاروا له عنوانا جميلا هو الوفاء وكأنهم أحسوا بل لمسوا غربة هذا الخلق الكريم وقيمته الغالية ومكانته العالية.
إن الجزاء من جنس العمل، فإذا كان الأبناء والأخلاء قد وفوا للشيخ عدون _رحمه الله_ فذلك جزاء وفائه، فقد وفى لدينه، الذي استيقنه وأشرب حبه وقضى عمره معلما لمبادئه، ناشرا لقيمه مجادلا عنه بكل قوته، ووفى وهو الأمازيغي الأصيل لهذا اللسان العربي الجميل الذي اصطفاه الجليل خاتمة للتنزيل ووفى لأمته ووطنه وشعبه وبلدته وعشيرته وأهله وإخوانه الذين عمل معهم وعملوا معه، وإن أجمل ما في هذا الوفاء أن الشيخ لم يمنن به، ولم يستكثر، حيث ظل يدرس في معهد الحياة ثلاثة عشر سنة دون أجر.
إن الشيخ عدون _رحمه الله_ شخصية متعددة الجوانب غزيرة التجارب فهو عالم دين أهَّله علمه لتولي رئاسة مجلس عمي سعيد، حيث كان يأمر بالمعروف عن بيّنة، ويأتيه ببيّنة، وينهى عن المنكر بالحكمة وهو أستاذ رحيم بتلاميذه، يحنو عليهم ويأبو لهم، وهو مسير حازم، أدار معهد الحياة وجمعية الحياة ومجلة الحياة وجمعية التراث، فلم يكسل ولم يشطط، وهو كاتب قدير لا يسبح في الخيال ولا يتغزل في القد والخال، بل يعالج قضايا الناس، ويقترح حلولا لما يعترضهم من مشكلات ويشجع على فعل الخيرات.
لقد جمع الذين أقاموا هذا المهرجان الرائع بين تأبين الشيخ عدون وبين تدشين المبنى الجديد لمعهد الحياة الذي يملأ العين جمالا والنفس جلالا، في غير إسراف ولا مخيلة وهو دليل آخر على أن إخواننا الميزابيين ينفقون ما آتاهم الله من فضله في إنشاء مؤسسات الرأي، وأن أكثرنا يبذر ما استخلفه الله فيه في إقامة مهرجانات الراي التي تتلف المال، وتفسد الحال وتعكر وتورث الخبال.
إن معهد الحياة هو أحد قلاع الدين وأحد حصون اللسان العربي المبين في الجزائر، وقد رفع قواعده وأعلى بنيانه إبراهيم وسعيد وإخوانهما من العلماء العاملين بما أمدتهم به الأمة من قليل موجودها في سبيل وجودها.
لقد أدى هذا المعهد الجليل دورا كبيرا في التاريخ فقد أنار منطقة الوادي، وأضاء الجزائر وأشع على أقطار بعيدة حيث تخرج فيه طلبة من ليبيا وعمان وزنجبار... وميزة هذا المعهد أنه يُعنى بالأخلاق قبل العلم فالعلم يصير كالخمر، ضرره أكثر من نفعه "ما لم يتوج ربه بخلاق" ولهذا كان شعاره منذ أسس على التقوى هو: "الدين والخلق قبل الثقافة، ومصلحة الجماعة والوطن قبل مصلحة الفرد"، وما أكثر فينا الذين مبلغهم من العلم كبير ولكنهم "صَلقَعٌ بَلقَع" في الأخلاق، وهم يقومون فينا بما قام به تسعة رهط في الحِجر، فيفسدون في الجزائر ويسعون في خرابها وقد أفلسوها حتى لم يساومها رغم جمالها وغناها أفلسُ المُفلسين.
لقد لخص الشاعر المرحوم صالح خرفي مآثر معهد الحياة وهو أحد أبنائها، في أبيات جميلة فقال:
(معهدَ الرشد) لا عدمْتُكَ صدرًا
أنتَ أورَثتَني الجزائر حُبّـًا
يَعرُبِيُّ الجناح فكْرًا ونُطقًـا
تلتقي حولَكَ البراعِمُ وَسْنَى
منذ سبعينَ والمراكبُ ترْسو
معهدٌ للشبابِ كنتَ وما زلتَ
كم رَعَى ناشِئًا و أيْقَظَ ذِهنا
أنتَ أسقَيتَنِي العُرُوبَةَ مَعْنَى
وجناحٌ تفيَّأَ الدِّينَ غُصنا
فتُبَـاهِي بها الربيعَ وتغنَى
سفنٌ تختفي فتحْضِنُ سُفْنا
شبابًا والعُمرُ أوشَك قَرْنا

لقد كذَّب الإخوة في القرارة بإقامة مهرجان الوفاء والذين جاؤوا من كل حدب وصوب من أنحاء الجزائر ومن ليبيا وعمان وزنجبار ليشهدوا هذا المهرجان كَذَّبوا قول القائل:
سألتُ الناس عن خِلٍّ وَفِيٍّ فقالوا: ما إلى هذا سبيل.
أجل إن الأوفياء قليل، ولكن تلك هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، فأكثر الناس لربهم كَنُودون وبولائه مستمتعون ومكذبون وإلى جهنم يحشرون.
وقديما قال الشاعر:
تُعَيِّرُنا أنَّا قليل عَدِيدُنَا فقلت لها إن الكرام قليل.
ولم يكدر على سعادتي بوجودي في القرارة إلا ثلاثة أمور هي:
- مروري على مدينة بريان ذهابا وإيابا فوجدتها كئيبة حزينة، هجرتْها العصافير، وجوه من رأيتهم حسبتهم سكارى وما هم بسكارى ولكن وقع الفتنة شديد، وأثرها عميق فعسى الله أن يؤتي لها رشدا فيقبسون قبسة من حكمة أسلافهم فيعيدون بريان إلى سيرتها الأولى، واحة أمن وإخوة وإيمان ويلعنون شياطين الإنس الذين نزغوا بينهم وأوقعوا بينهم العداوة والبغضاء.
- فقدان من كان يهشّ بي ويبشّ وهو فضيلة الشيخ عدون الذي كان يُقربني إليه ويحِلُّني صدارة المجلس ويؤثرني على كثير ممن هم أولى مني بذلك فرحمه الله رحمة واسعة وجزاه الجزاء الأوفى.
- فقدان أخي الكريم محمد ناصر، الذي ليس من عادته أن يتأخر عن مثل هذه المهرجانات بل من عادته أن يكون نجمَها الساطع وبدرَها اللامع، وما منعه أن يشهد مهرجان الوفاء وهو من أوفى الأوفياء إلا ما ابتلاه به ربه من مرض، ليمحص ما في قلبه حتى إذا أزفت أزفته ذهب إلى ربه نقيا، كالثوب الأبيض لا شِيَّة فيه، وقد حدثتني نفسي أن الأخ محمد ناصر يعتصر ألما لغيابه الاضطراري عن المهرجان وملاقاة الإخوة والخلان، فهاتفته من القرارة لأطمئن عليه ولأخفف عنه في الظاهر، ووالله ما فعلت ذلك إلا تخفيفا عن نفسي، فإذا بالعبرات تخنقني، وبالشجاعة تخونني، وأنا العَصِيُّ الدمع فقطعت المكالمة.
إنني أحب إخواني في القرارة كحبي إخواني في الجزائر كلها، ولكن ليعذروني إذا صرحت أن حبي للشيخ عدون _رحمه الله_ وللأخ محمد ناصر _حفظه الله وشفاه_ أكبر.
وإلى اللقاء في مهرجان آخر، وفاء للسلف وإعدادًا للخلف.

أضف تعليقا

عدد التعليقات (0)