إسهامات فكرية

براءة الإباضية

براءة الإباضية

  • 832
  • 0

براءة الإباضية 

بقلم: الأستاذ فهمي هويدي

استطاع مؤتمر الفقه الإسلامي الذي انعقد في سلطنة عمان، أن يطفئ أحدث حريق مذهبي شب في المنطقة، مُنْجِزًا بذلك عملا توحيديا جليلا، يرجى له أن يتواصل على مختلف الجبهات المهددة بالاستغلال.

فقد حدث أن توجه بعض الشباب السعودي إلى الشيخ عبد العزيز بن باز – رئيس الإفتاء بالمملكة – وسألوه قائلين: وفد علينا بعض أتباع المذهب الإباضي، فهل تجوز الصلاة وراءهم ؟ رد الشيخ ابن باز بالسلب، وأفتى بأن الإباضية فرقة ضالة، ولا تجوز الصلاة وراء أتباعها.

قالها الشيخ في كلمات معدودة، كان لها وقع الصاعقة على رؤوس تجمُّعات الإباضية في زماننا، الذين يتوزعون بين بعض دول شمال إفريقيا وسلطنة عمان. إذ نكأت الفتوى جراحا قديمة، وأثارت لغطا عفا عليه الزمن، وفتحت ملفا حسبنا أنه انغلق.

وحسب الروايات التي تتردد في الكواليس، فقد سافر مفتي السلطنة – الشيخ أحمد الخليلي – إلى السعودية لتدارك الموقف، في مهمة يبدو أنها لم تنجح، وبالمقابل فإن مبعوثا سعوديا رسميا زار السلطنة في محاولة لتطويق المشكلة، وللإيحاء بأن الخلاف المذهبي، إن تفجر بين رموزه، فينبغي ألا تكون له تأثيرات سلبية على العلاقات السياسية بين البلدين، وإن رأي بعض أهل المذهب ليس هو بالضرورة ولا هو دائما رأي السلطة في المملكة.

في ظل تلك الظروف برزت فكرة الدعوة إلى عقد مؤتمر فقهي في مسقط، لحسم المشكلة، وإعلان براءة الإباضية مما تُرمى به. وفضل أهل النظر أن يكون عنوان المؤتمر هو الفقه الإسلامي على إطلاقه، وأن يكون الفقه الإباضي أحد محاوره الأساسية، بحيث تتم مناقشة الموضوع، وتعلن البراءة من جانب فقهاء الأمة، بصورة طبيعية وغير مباشرة، فيطفأ الحريق في هدوء، ويرد الاعتبار، وتهدأ النفوس الغاضبة والقلوب الجريحة، بين عامة الإباضية وخاصتهم.

أكثر الذين دعوا للمشاركة في المؤتمر لم يكونوا على علم بتلك الخلفية، ولكن قائمة المدعوين كانت توحي بأن هناك نوعا من (الاستنفار) الفقهي، لمواجهة أمر طارئ له أهميته، فقد كان في المقدمة كل رموز الأزهر، شيخه ووكيله ورئيس جامعته، وأمين مجمع البحوث الإسلامية، ومفتي مصر، واثنان من وزراء الأوقاف السابقين، غير نفر من أساتذة الشريعة والأصول. من ناحية أخرى، فقد شارك من السعودية رئيس مجمع الفقه الإسلامي، ومن الأردن وزيرا الأوقاف والشباب (وله مؤلف عن الإباضية) إضافة إلى المفتي وعميد كلية الشريعة، وشيخ فقهاء الشام المعاصرين، الشيخ مصطفى الزرقاء. كان بين المشاركين أيضا مفتي سورية وممثلو كليات الشريعة في مختلف الجامعات الخليجية، وعدد من فقهاء الإباضية في تونس والجزائر، غير فقهاء المذهب في عمان بطبيعة الحال.

ورغم أن البحوث المتعلقة مباشرة بالمذهب الإباضي لم تتجاوز خمسة من بين 14 بحثا عرضت على المؤتمر، إلا أن محاور البحث الأخرى كانت متصلة بالموضوع بصورة غير مباشرة، إذ أنها ركزت على وحدة الأمة الإسلامية، ومرونة الفقه الإسلامي، ومجالات الاجتهاد عند فقهاء المسلمين.

وكأن الرسالة التي أريد لهذه الأبحاث أن تبلغها للكافة هي: أن وحدة الأمة الإسلامية أمر لا ينبغي التفريط فيه، وأن الإسلام يحتمل كل اجتهاد لا يخل بأصوله، فارفعوا أيديكم عن الإباضية، ودعوا مذاهب المسلمين تتعايش ولا تتنازع.

ورغم أن موضوع المؤتمر هو الفقه الإسلامي، إلا أن الشعارات التي رفعت والآيات التي قرئت، واللافتات التي وزعت في العاصمة كانت تركز على أمر واحد هو: وحدة المسلمين والدعوة إلى نبذ الفرقة بين أهل الملة.

وهذه المعاني ذاتها، سجلها منظمو المؤتمر، في الكراس الذي وزع على الجميع، وتضمن عناوين البحوث وبرنامج العمل، ففي المقدمة أشير إلى أن للندوة أهدافا ستة بينها: تعارف علماء المسلمين، والسعي لتحقيق الوحدة الإسلامية، والالتقاء تحت مظلة الإسلام التي تحمي سائر الاجتهادات، ورأب الصدع ومحاولة القضاء على ما يدعو إلى الفرقة.

ويوم افتتاح المؤتمر  التاسع من أبريل  خرجت صحيفة عمان اليومية الرئيسية بمقال افتتاحي لأحد مشاهير الكتاب العمانيين  حمود بن سالم السيابي  تحت عنوان (متى يكون في اختلاف العلماء رحمة؟)  وفيه دعا إلى (ضرورة تنقية الفقه الإسلامي من الشوائب التي أفرزتها بعض التأويلات الخاطئة)، وفهم أنه يعني بهذه الإشارة مختلف الاتهامات التي رددتها كتب التراث حول سلامة عقائد الإباضية.

وفي موضع آخر من المقال، أخذ الكاتب على بعض الفقهاء تورطهم في "التسابق والتنافس لاستعراض مناقب مذهبهم، وتكفير مخالفيهم، مهما كانت شمس الحق هي سيماهم التي على وجوههم"..ولم يكن هؤلاء الأخيرون سوى أتباع المذهب الإباضي، الذين لاحقتهم الاتهامات، وأفتى الشيخ ابن باز ببطلان الصلاة وراءهم..

وأيا كان الأسلوب الذي اتبع في إخراج الموضوع، فإن مختلف الشواهد كانت تدل على أن أساس المؤتمر ومرماه هو: تبرئة ساحة الإباضية ورد الاعتبار لهم. وهو هدف مشروع، وبلوغه مطلوب من قبل كل الداعين إلى وحدة المسلمين، ولم شمل شراذمهم المبعثرة، خصوصا في زماننا الذي يخطط فيه لمستقبل العالم الإسلامي على أساس تفتيته وتقطيع أوصاله، وتفجير الصراعات المذهبية بين أهله. وما مثل لبنان منا ببعيد..

وحتى لا نظلم الشيخ ابن باز، فإن الانصاف يقتضينا أن نقر بأن الرجل لم يبتدع ما قاله ولم يختلقه، وإنما كان في حكمه مستندا إلى ما ذكرته كتب السلف حسبما ذكرنا توا. وفي مقدمة تلك الكتب (مقالات الإسلاميين) للأشعري – (الفرق بين الفرق) للبغدادي – و (الفصل بين الملل والنحل) لابن حزم و (الملل والنحل) للشهرستاني. وكتاب الأشعري صدر في الربع الأول من القرن الرابع الهجري. أي أن عمره يتجاوز ألف عام. وفيه عديد من الإشارات إلى ضلال الإباضية، وانتسابهم إلى الخوارج واتهامهم لمخالفيهم بالكفر دون الشرك. وعنه نقل عنه أكثر لاحقيه ممن كتبوا عن الإباضية، ولم يتح لهم أن يطلعوا على مؤلفات أصحاب المذهب، ليتحققوا من مدى صحة تلك "المقالات".

ومنذ اثني عشر عاما – في سنة 1976 – صدر في مصر كتاب لأحد فقهاء الإباضية، هو الشيخ علي يحي معمر – عنوانه (الإباضية بين الفرق الإسلامية) – وفيه جمع كل مقولات السلف والخلف، وكافة الاتهامات التي وجهت إلى المذهب ودعاته، وفندها جميعا. وهو يتولى الرد عليها. وقد هدم مقولات الأشعري، مثبتا أن فرق الإباضية التي أشار إليها وأسماء الفقهاء الذين ذكرهم، لا وجود لهم على الإطلاق، لا في تاريخ الإباضية أو مصنفاتهم – وانتهى إلى أن الأشعري "لا يعرف عن الإباضية شيئا، وأن أكثر ما كتبه لا علاقة لهم به، ولا علاقة له بهم".

وذهب المؤلف إلى أن الإباضية ليسوا من الخوارج، غلاتهم أو معتدليهم. وكونهم رفضوا أن يظل الحكم حكرا على قريش، واعتبروا التحكيم بين علي ومعاوية خطأ ما كان له أن يقع، فإن ذلك لا يصنفهم ضمن الخوارج. فالإباضية  – بنص عبارته – لا يريدون أن ينتسبوا إلى الخوارج، ولا يحسبون أنفسهم كذلك، ولا يعتزون بالخارجية، لسبب بسيط هو: أنهم لا يحكمون على غيرهم من المسلمين بأحكام المشركين، ولا ينفذون فيهم تلك الأحكام )- (ص 417).

استشهد الشيخ معمر بما كتبه الدكتور مصطفى الشكعة – صاحب كتاب (إسلام بلا مذاهب) عندما قال إن الإباضية رموا بتهمة الخوارج لأنهم رفضوا القرشية، أي التزام كون الإمام من القرشيين. وأضاف إن التقاءهم مع الخوارج في هذا الموقف، إضافة إلى تخطئتهم للتحكيم بين علي ومعاوية، هو الذي فتح عليهم باب الاتهامات التي لاحقتهم منذ العصر الأموي، وحتى العصر الحديث.

لقد اتهمهم الأمويون بأنهم خوارج بسبب موقفهم من الإمامة القرشية، ولاحقوهم بتلك التهمة، ثم جاء أعوانها فاخترعوا للإباضية عقائد وشنائع بثوها عنها، فانتشرت بين الناس، وقامت حائلا دون أن يفهم بعضهم البعض. واختفى في زحمة النقاش السبب الرئيسي للموضوع، وطغت تلك وراجت، حتى تناولتها الأقلام بالإثبات والترسيخ (ص 159).

ومما استشهد به الشيخ معمر أيضا،وهو يبرئ الإباضية من الانتساب إلى الخوارج، ما كتبه الأديب عز الدين التنوخي، عضو المجمع العربي بدمشق، أن من دلائل "جهالتنا بعمان وأهلها، أن السواد الأعظم من العرب والمسلمين يظنونهم من غلاة الخوارج"... مع أن إطلاق لفظة الخوارج على الإباضية عند واحد من فقهائهم –هو أبو إسحاق اطفيش– يعد من قبيل الدعايات الفاجرة التي نشأت عن التعصب السياسي أولا، ثم عن التعصب المذهبي ثانيا، لما ظهر غلاة الخوارج (ص 133).

لقد أصر الشيخ معمر على أن الإباضية من أهل السنة وليسوا من الخوارج، وإلى هذا يذهب أكثر فقهاء الإباضية المحدثين، إلا أن الاتجاه الغالب بين الباحثين المعاصرين يصنفهم باعتبارهم من معتدلي الخوارج.

بهذا يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه عن المذاهب الإسلامية، والدكتور عوض خليفات أستاذ التاريخ بالجامعة الأردنية ووزير الشباب الحالي، في مؤلفه (نشأة الحركة الإباضية).

ومن الطريف هنا أني وجدت أحد الباحثين يضع الإباضية في تصنيف ثالث، بعيدا عن السنة وعن الخوارج، فيعتبرهم من فرق الشيعة، رغم إشارته إلى أنهم ينتسبون إلى عبد الله بن إباض، الذي وصفه بأنه من زعماء الخوارج والباحث هو الدكتور السيد المطري، الأستاذ بجامعة الملك عبد العزيز. وعنوان كتابه، الذي حمل اسم لجنة البحث العلمي بالجامعة هو: (دراسات في سكان العالم الإسلامي). وقد أحالنا الباحث في صدد هذه المعلومة إلى كتاب (البلدان الإسلامية)، الذي صدر في السعودية أيضا (سنة 1979) لثلاثة من كبار الأساتذة المهتمين بالدراسات السكانية في العالم الإسلامي.

هذا التفاوت في تصنيف الإباضية يعكس جانبا من الالتباس الذي أحاط بمذهبهم وأهله طوال القرون التي انقضت من التاريخ الإسلامي، وكان سببا في حيرة بعض الباحثين وتخبطهم. فهم خرجوا فعلا على الإمام علي ومعاوية بن أبي سفيان، لكنهم يبرؤون من الخوارج. والتقاؤهم مع الخوارج في الموقف السياسي، لم يؤثر على التقائهم مع أهل السنة في الموقف الفكري أو الفقهي. وهم ينسبون إلى عبد الله بن إباض، بينما المؤسس الحقيقي لمذهبهم هو الإمام جابر بن زيد. وهم دائما كانوا جزءا من جغرافية الواقع الإسلامي، لكنهم أسقطوا من الحسبان عندما كتب التاريخ الإسلامي.. وعلى كثرة وفخامة مصنفاتهم الفقهية، فإنها لم تر النور إلا منذ سنوات قليلة، عندما أنشأت سلطنة عمان وزارة للتراث القومي، نهضت بتلك المهمة.

لقد لاحقهم الأمويون عمليا وأدبيا، منذ وقفوا في صف المعارضة لهم، كما ذكر الدكتور الشكعة بحق. وعندما برز عبد الله بن إباض متحدثا باسمهم ومناظرا لمخالفيهم، فإنهم أرادوا به ستر قيادتهم الفكرية الحقيقية، المتمثلة في الإمام جابر بن زيد (ولد حوالي سنة 20 هجرية وعاش حتى نهاية القرن الأول ). وهو يعد من التابعين المرموقين، العارفين بكتاب الله، وباعه لا ينكر في رواية الحديث، وفي الفتوى، التي كان يباشرها مع الحسن البصري في البصرة، وفي غيرها.

وبسبب من تلك الملاحقة، فإن الإباضية اتجهوا إلى مناطق الأطراف، ليأمنوا من بطش الحكام والولاة. فنزح بعضهم إلى ما وراء جبل عمان، في ركن قصي من الجزيرة العربية.

وهناك أقاموا دولتهم (سنة 132 هـ) التي مازالت قائمة إلى الآن. وانطلق آخرون منهم إلى الشمال الإفريقي والأندلس، فأقاموا دولة في ليبيا (سنة 140 هـ ) استمرت ثلاثة أشهر، انسحبوا بعدها إلى منطقة جبل نفوسة في أقصى الجنوب. وكذلك فعلوا في الجزائر، أقاموا دولة استمرت ثلاثين عاما (160 – 190هـ)([3])، ثم نزحوا إلى وادي ميزاب، واستقروا هناك ولا يزالون. وفي تونس تمركزوا في جزيرة (جربة) حتى الآن. وفي الأندلس اعتصموا بجزيرتي (ميورقة ومينورقة) ثم غادروها إلى الشمال الإفريقي بعدما سقطت دولة المسلمين. ومن الإباضية جماعة استقرت في واحة سيوه، بصحراء مصر. وتعد دار الكتب المصرية مصدرا هاما لمخطوطاتهم. وفقيههم أبو اسحاق اطفيش، الذي أشرنا إليه، كان أحد موظفي الدار، وإن صرف كل جهده لتحقيق تلك المخطوطات ودراستها([4]).

بهذا الاحتماء بالمناطق النائية، غدت تجمعات الإباضية بعيدة عن الأنظار، وغائبة عن المعترك السياسي والفكري الذي ارتبط بمقر الخلافة في المشرق العربي. مما ساهم في التجهيل بهم، فضلا عن الترويج لمختلف الاتهامات التي ألصقت بهم، وفي مقدمتها نسبتهم إلى الخوارج وإضافتهم إلى من ضل في فرق المسلمين.

ورغم أن عدد الإباضية الآن قد لا يتجاوز مليونين من الأشخاص، إلا أن الحركة الإباضية كان لها حضورها في التاريخ الإسلامي، الذي لم يظهر بحجمه في مختلف كتب التراث، وما ظهر منها إما جاء مشوها، أو مبتسرا للغاية. والشكوى من ندرة المعلومات في هذا الصدد، سجلها أساتذة التاريخ الذين تناولوا الحركة الإباضية، وفي مقدمتهم الدكتور سعيد عاشور، والدكتور عوض خليفات.

فموسوعات التاريخ الإسلامي لا تمر على عمان وأهلها الإباضية إلا مرورا سريعا وخاطفا. ودورهم في الأندلس غير مذكور على الإطلاق. وعلماء الإباضية لا يشار إليهم في كتب الطبقات. وأشهر تلك الكتب – طبقات ابن سعد – لم يذكر سوى الإمام جابر بن زيد في عرض مقتضب. ولفت ذلك أنظار بعض الباحثين العمانيين، فقرر مؤلف كتاب (عمان – تاريخ يتكلم) أن ابن سعد أشار إلى الإمام ابن زيد (رغم أنفه).

حسنا فعل مؤتمر مسقط، عندما ركز على فقه الإباضية، ولم يحتف بأمر تصنيفهم أو ما نسب إليهم من اتهامات في الموقف أو في العقيدة، فتحديد طبيعة الفقه ومصادره وركائزه كفيل بحسم كل ما ينبني بعد ذلك من استنتاجات أو تأويلات. إذ الخوض في التاريخ لا طائل من ورائه، والجدل حول رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، الذي يقول الإباضية باستحالته، بينما قرر آخرون وقوعه، ويرون المخالفة فيه من قبيل الاجتهاد في شأن العقيدة الذي يستدل به على الضلال.. هذا الجدل يظل من قبيل الثرثرة في شأن عالم الغيب، التي تضر ولا تفيد. بالتالي، فقد أصبح الحوار منابع أصول الفقه الإباضي هو الاختيار – أو الاختبار – الصحيح.

من هذه الزاوية، تلفت أنظارنا في الأبحاث المقدمة، العناصر والإشارات التالية:

في بحث الدكتور يحيى محمد بكوش (الجزائر) حول مدرسة جابر بن زيد وأثرها في الفقه الإسلامي مسح للظروف التي نشأ فيها ذلك الفقه، من حيث الزمان والمكان. ذلك أن بيئة العراق، التي ظهر فيها الفكر الإباضي، تعرف تاريخيا بأنها مدرسة الرأي والاجتهاد والاستنباط في الفقه الإسلامي، التي أفرزت عديدا من الأئمة الذين كانوا من كبار التابعين. جابر بن زيد في المقدمة من هؤلاء، ومعه الحسن البصري وعلقمة بن قيس، وابراهيم النخعي.

في الوقت ذاته، فقد كان لأعلام هذه المدرسة نصيبهم الوافر من علوم الحديث. وثبت أن جابر بن زيد كان كثير الترحال إلى الحجاز، ولزم عبد الله بن عباس، حتى عرف أحدهما بالآخر. وقد اعتبر جابر بن زيد أحد أئمة السنة في البصرة، حتى وثقه جميع نقاد الحديث، وأجمعوا على عدالته وضبطه. بل إنه اعتبر من رجال أصح الأسانيد. وقد استفتي عبد الله بن عباس مرة في أمر فقال: عجبا لأهل العراق، كيف يحتاجون إلينا وعندهم جابر بن زيد، لو قصدوا نحوه لوسعهم علمه.

الخلاصة إن ابن زيد – مؤسس المذهب - نشأ في عصر كبار التابعين. الذين تحرروا من التقاليد ومن التعصب، ولم يكن يلزمهم سوى القيود الشرعية المتفق عليها بين أهل الثقة والورع. وكان هذا العصر هو حلقة الوصل بين عصر النبوة والصحابة، وعصر تكوين المذاهب الفقهية التي ظهرت فيما بعد.

فمدرسة جابر بن زيد هي التي أفرزت الفقه الإباضي، الذي انتشر مبكرا في عمان والمغرب وحضرموت. ومدرسة ابراهيم النخغي هي التي خرجت الإمام أبو حنيفة ومذهبه الذي انتشر من الكوفة إلى أرجاء العالم الإسلامي. وفكر سعيد المسيب هو الذي تطور وتأصل من بعد على يد الإمام مالك ومذهبه المعروف.. وهكذا.

في البحث الذي قدمه الفقيه التونسي الدكتور فرحات بن علي الجعبيري، حول دور المدرسة الإباضية في الفقه والحضارة الإسلامية، خلص إلى أن هذه المدرسة سلكت منذ يومها الأول المسلك المتفق عليه في الفقه والاجتهاد، فاعتبرت مصادر الشريعة الأساسية، متمثلة في الكتاب والسنة والرأي. وفي ذلك رد على من يدعون أن الإباضية فرقة مبتدعة، وبعدما تغيرت هذه النظرة في الدراسات الحديثة، إلا أن الباحث سجل اعتراضه على إشارات الكتاب المعاصرين إلى أن الإباضية أقرب المذاهب إلى أهل السنة. وتساءل في هذا الصدد: لماذا هذا التصنيف، بعد أن أثبت أن المذهب الإباضي أسبق المذاهب اعتمادا كليا في تأصيل الشريعة ؟

أضاف الباحث إن: أثر العقيدة الإباضية واضح في الفقه، ويتمثل في اعتبار العمل لا يتجزأ من الإيمان. وفي اعتقاد الخلود لمن يموت مصرا على الكبائر، ويتجلى هذا في كثرة التحري، مما جعل الناس يتهمونهم بالتشدد والمغالاة. والفرق واضح بين الذي يجتهد في تحري الحقيقة داخل إطار النص، وبين الذي يخرج عن النص فيحمله ما لا يتحمل.

انطلق بحث الدكتور ابراهيم عبد العزيز بدوي (جامعة الأزهر) من ذات المنطلق، في بحثه حول دور المدرسة الإباضية – فذكر أن المذهب (الإباضي) ليس مستحدثا. وإنما نشأ متأصلا على القواعد الصحيحة. مدعما الأصول الواضحة الثابتة. فبالنظر والتتبع، لا يوجد في فقهه ما يخالف الكتاب ولا السنة النبوية، ولا عموم الأصول التي اتفق عليها المسلمون جميعا.

وأضاف إن الأصول ثابتة وراسخة لا خلاف فيها. أما ما كان من خلاف في بعض المسائل الفرعية، فإنما يرجع إلى فهم النصوص من الكتاب والسنة، واستخراج الأحكام الشرعية العملية منها. وهذا لا يؤثر على نشأة الاجتهاد في شيء ولا في علم المجتهد.

في موضع آخر من بحثه قال: بالرجوع إلى فقه الإباضية، تجد أن المسائل التي خالفوا فيها الحنفية مثلا، اتفقوا فيها مع الشافعية أو المالكية أو الظاهرية. وما خالفوا فيه مذهبا وافقوا فيه الآخر.

أما المسائل النادرة التي خالفوا فيها جملة أهل السنة، تجد فيها إما رأيا واحدا عندهم، أو رأيين أحدهما خاص بهم، والآخر يتفق مع مذهب من مذاهب أهل السنة. وإذا كان للإباضية رأيهم المنفرد في بعض الحوادث التي يمكن حصرها، فإنك تجد الاختلاف بين مذاهب أهل السنة أنفسهم في كثير من الحوادث والفروع التي لا يمكن حصرها.

لقد تابعت مناقشات مؤتمر مسقط، الذي عقد في رحاب جامعة قابوس. وكان أهم ما لاحظته أن جل الجدل ثار حول مختلف الموضوعات الأخرى التي تناولتها البحوث، بينما كان الاتفاق عاما حول المحاور الأساسية لما تعلق منها بالفقه الإباضي، حيث لم يجادل فيها أحد، ولم يختلف.

وهو ما يعني أننا كسبنا جولة مهمة في معركة وحدة الصف الإسلامي والحمد لله.

خطوتان إلى الأمام

هذه عناوين هامة، أرشحها لصدارة أحداث العالم الإسلامي في سنة 1988: دعا مؤتمر الفقه في عمان إلى فض الاشتباك بين مختلف المذاهب الإسلامية  طالب ممثلو فقهاء الأمة بتجميد صراعات القرن الأول الهجري الأول وإغلاق ملفات الفتن والأحزان التي شهدتها تلك المرحلة  أوصوا بمداومة اللقاء بين فقهاء المذاهب الإسلامية بعيدا عن المنافسات المذهبية والعصبية  حثوا أهل العلم على دراسة المسائل المختلف عليها في فقه المذاهب الثمانية وتحقيق أدلتها والترجيح بينها، دون التزام بمذهب معين.

بعدما بدد المؤتمر مختلف الغيوم والشبهات المثارة حول الفقه الإباضي، وبرأهم من تهمة تكفير مخالفيهم، وقرر في إحدى التوصيات أنهم يستمدون فقههم من الأصول الشرعية المعتمدة، ويجلون كل الصحابة ويحترمون مقامهم، وطالب في توصية أخرى بإخراج كنوز الفقه الإباضي وإتاحتها للباحثين.. بعدما حقق المؤتمر هذا الإنجاز، تعرض للمحيط الإسلامي العام، وسجل تلك التوصيات التي مررنا بها، والتي تشكل منعطفا مهما على صعيد وحدة الصف الإسلامي، إذا أخذت مأخذ الجد.

لا يستطيع المرء أن يذهب بعيدا في التفاؤل، ليحسب أن عهدا جديدا بدأ في العلاقة بين المذاهب الإسلامية، أو أننا بصدد بروتوكولات لفقهاء المسلمين، تحدد خطى المستقبل وترسم معالمه. فعهدنا بتوصيات المؤتمرات العربية أن القول فيها منفصل عن الفعل، وأن الضجيج فيها أكثر من الطحن.

ولئن شككت تلك الخلفية في مدى فاعلية توصيات مؤتمر عمان، لكنها لا تقلل من أهميتها الفكرية والنظرية على أية حال. والأهمية منصبّة على الموقف الذي سجله المؤتمر، والذي أحسب أن أجلّ ما فيه هو المبدأ والمنهج. أعني مبدأ فتح الأبواب بين مختلف المذاهب، ومد الجسور بين أتباعها من المسلمين، من أجل تحقيق التقارب والتفاهم، لا التنابذ والتخاصم. كما أعني بالمنهج تجميد صراعات الأمة التي خلت، وإغلاق ملفات الخلافات التي لم يعد لإحيائها معنى أو جدوى، سواء تلك التي تتعلق بقرشية الحاكم أو بإمكانية رؤية وجه الله يوم القيامة، أو بطبيعة دور الإمامين جابر بن زيد وعبد الله بن إباض في رفض التحكيم بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أو معاوية بن أبي سفيان، أو حتى تلك التي تتعلق بأحقية الخلافة بعد وفاة النبي (عليه الصلاة والسلام)، وهل تكون لعلي أم لأبي بكر ومن بعده عمر بن الخطاب ؟

لقد هيمنت على بحوث المؤتمر ومناقشاته وتوصياته روح التوحُّد والرغبة في التلاقي والانطلاق نحو المستقبل لا الاستغراق في حسابات الماضي. وتلك أمور كانت كفيلة بتوفير أسباب النجاح للمؤتمر. ولعلها تنبهنا في الوقت ذاته إلى حقيقة هامة في شأن العلاقة بين مختلف المذاهب الإسلامية، أشرت إليها في معالجات سابقة لهذا الموضوع الدقيق. وهي أن بين مذاهب المسلمين المعتبرة عديدا من مواضع الاختلاف، كما أن بينها عديدا من نقاط الاتفاق، والتعامل مع القضية من مدخل الاختلاف أو من باب الاتفاق وثيق الصلة بالموقف الأساسي للباحث، وما إذا كان ساعيا إلى وحدة الأمة وتأليف قلوب أبنائها أيا كانت مللهم ونحلهم، أم أنه مشغول بهدف آخر مذهبي أو عنصري أو سياسي، يتقدم في الأولوية على وحدة الأمة والتئام صفها.

وقد كان واضحا منذ بداية مؤتمر مسقط أن المشاركين فيه دخلوا إلى قاعة المؤتمر من باب الاتفاق وليس من باب الاختلاف، وبدا هذا الموقف أكثر ما بدا في الجلسات التي عرضت خلالها الأبحاث المتعلقة بالمذهب الإباضي، رغم أن الموضوع يحتمل جدلا طويلا لمن أراد أن يجادل أو ينازع فالتاريخ  كالفقه  حمَّال أوْجُه.

حقا، كان موقف الفقهاء المشاركين يتسم بقدر كبير من الإحساس بالمسؤولية والرغبة في التلاقي، كما ذكرت، لكن المرء لا يستطيع أن يسقط من الحسبان الدور الذي لعبه المناخ السياسي في صياغة ذلك الموقف. فالدول التي شاركت في المؤتمر بحضور مكثف، تربطها بسلطنة عمان علاقات حميمة في الأساس. فتمثيل الأزهر وجامعته بأربعة عشر عضوا يتقدمهم الإمام الأكبر، إن عبر عن عناية الأزهر المعهودة بالقضية وبوحدة الأمة، إلا أنه يعكس أيضا مدى الحرارة التي تتسم بها العلاقات بين مصر والسلطنة. وهو ما ينطبق أيضا على الوفد الأردني، الذي ضم اثنين من الوزراء علاوة على المفتي وعميد كلية الشريعة. والذي كان حجم التمثيل فيه معبرا عن خصوصية العلاقة بين الأردن والسلطنة.

ولا غضاضة في ذلك بأي حال. فاستثمار المناخ السياسي لتحقيق التقارب بين مذاهب المسلمين، أسلوب مشروع لبلوغ هدف مشروع. وهو أمر نقبله ونحبذه، كما أننا قبلنا وحبذنا فكرة التقارب بين السنة والشيعة الاثني عشرية، التي ولدت في مصر إبان الأربعينيات، وقيل إنها ولدت في ظل التقارب السياسي بين البلدين، الذي نشأ في أعقاب المصاهرة التي قامت بين شاه إيران وملك مصر السابق، حيث عقد الأول قرانه على شقيقه الثاني.. وقدر لمسيرة التقريب أن تستمر حوالي ربع قرن بعد ذلك، بينما فشلت الزيجة بعد سنوات قليلة.

وما يهمنا في هذا الشق أن الخلافات بين فرق المسلمين تتأثر سلبا وإيجابا بالظروف السياسية، ناهيك عن أن الخلاف السياسي حول قضية الإمامة، كان الشرارة الأولى التي أدت إلى تقسيم المسلمين في القرن الهجري الأول إلى سنة وشيعة وخوارج، بالتالي، فليس صحيحا دائما أن الخلاف المذهبي هو كله شأن عقَدي، لأن للخلاف السياسي دوره الذي لا ينكر، في الماضي والحاضر أيضا. وليست بعيدة عنا تلك المحاولات التي تبذل الآن لتفجير عناصر الصراع المذهبي بين السنة والشيعة، مستمثرة المناخ السلبي الذي أفرزته الحرب العراقية الإيرانية.

قلت إن أهم ما في توصيات مؤتمر عمان هو المبدأ التوحيدي الذي انطلقت منه، والمنهج العملي الذي دعت إليه في تجاوز الخلاف والارتفاع فوق ما هو عقيم من أسبابه.

وتحت كل من العنوانين هناك الكثير مما ينبغي أن يقال،   سواء لإثراء لغة الخطاب الإسلامي المعاصر، أو لتصحيح صيغة الأداء من جانب المشتغلين بالعمل الإسلامي. ذلك أن المرء يكاد يفتقد المنطق التوحيدي في الخطاب الإسلامي الذي تتعدد منابره وأصواته في زماننا. فضلا عن أن الأداء الإسلامي، ممثلا في بعض فصائله الكبيرة، لم يستوعب بعد فكرة (تجاوز المراحل) سواء تمثلت في عملية تجميد الصراعات العقيمة أو إغلاق الملفات القديمة.

وقد أزعم أني أحد الذين شغلوا أنفسهم بالأمرين معا منذ سنوات. فلي في قضية وحدة الصف الإسلامي أبحاث وكتابات متواضعة، قدمت لبعض الندوات، أو نشرت في عدد من المجلات الثقافية. كان آخرها ما نشرته لي مجلة (العربي) التي تصدر في الكويت، في حلقات استمرت سبعة أشهر تحت عنوان: (إشكالية الآخر في التفكير الإسلامي). وقد عالجت فيه علاقة المسلمين بالعالم الخارجي، وبغير المسلمين في داخل ديارهم، وبالآخر السياسي (نظام الأحزاب والمعارضة) أو بالآخر المذهبي، الذي يعنينا أمره الآن.

بالتالي، فما قيل حول العلاقة بين مذاهب المسلمين، إذا كان قد حقق مصلحة أكيدة – على الصعيد الفكري – فإنه أيضا صادف هوى في نفسي. من حيث إنه أحد مداخل المشروع الحضاري الإسلامي، الذي ندعو إليه ونحلم به. وهو المشروع الذي يتجاوز الحركة والمذهب والعرق، ويطرح نفسه كصيغة للمستقبل، تظلل الجميع، بمختلف مذاهبهم ودياناتهم، ومدارسهم الفكرية والسياسية. وإن كان في التطبيق يخضع لسنن النمو الطبيعية، مبتدئا بالوطن، ومنتهيا بالناس كافة، ومارا بالأمة العربية، ثم الأمة الإسلامية.

في ظل هذا المنطلق فإنه قد لا يكون مفهوما أن نبادر إلى مناقشة وحدة الأمة الإسلامية بينما قضية الوحدة الوطنية لم تستقر بعد في صيغة متفق عليها بين مختلف الأطراف. وفي إحدى الندوات التي شهدتها وطرح فيها هذا الموضوع، قال أحد الباحثين اللبنانيين مستدركا: إن هناك من يقفز إلى الحديث عن الوحدة الإسلامية، بينما نحن في بيروت نواجه مشكلة حادة في تحقيق الوحدة بين شارعين اثنين في المدينة الواحدة.

وحتى لا يحدث مثل هذا الالتباس، فمن المهم أن يكون واضحا أن قضية الوحدة الوطنية في كل قطر هي ما ينبغي أن يحتل المقام الأول  بلا منازع  في أولويات الخطاب الإسلامي، لأسباب بديهية أحسب أنها ليست بحاجة إلى شرح. بالقدر نفسه، فإننا ننبه إلى أن حديثنا  فيما نحن بصدده الآن  ينصب على وحدة الصف الإسلامي وليس عن دولة إسلامية واحدة. أي أننا نستخدم كلمة الوحدة بمفهومها الاصطلاحي وليس الدستوري. لذلك لا ينبغي أن تتداخل وحدة الصف الإسلامي مع مفهوم وحدة الوطن، عندما تتعدد الانتماءات المذهبية في الوطن الواحد، وهو الحاصل في العديد من دول الخليج وشبه الجزيرة العربية والعديد من مجتمعات المسلمين في آسيا، وشبه القارة الهندية في مقدمتها.

وإذا انصرف حديثنا هنا إلى وحدة الصف الإسلامي، فذلك لا يمثل دعوة إلى إعادة ترتيب الأولويات، وإنما هو يعكس – فقط – تسليط المزيد من الأضواء على قضية طرحت نفسها على الساحة، وبحثت في مؤتمر فقهي كبير، وعولجت بقدر ملحوظ من التوفيق والتسديد.

وفضلا عن ذلك، فهي فرصة للحوار حول مشروع التصور الذي عرضته للمناقشة في أكثر من منتدى فكري، حول تلك القضية الدقيقة التي يلوح بها بين الحين والآخر، لتكون سبيلا إضافيا إلى المزيد من الشرذمة والتفتت.

في صدد الموضوع ننبه إلى أمرين:

-                     أولهما أن هذا الذي ندعو إليه ليس ابتكارا ولا ابتداعا. ولكنه حلقة في مسيرة بدأها آخرون، ممن التقوا على دعوة التقريب بين المذاهب، وعملوا لها، منذ نصف قرن من الزمان، وفي مقدمتهم بعض علماء الأزهر ونفر من أعلام العمل الإسلامي في مصر. وبعضهم لا يزال حيا إلى الآن، في مقدمتهم الشيخ عبد العزيز عيسى، مقرر لجنة التقريب سابقا ووزير الأوقاف لاحقا. ومن السابقين في هذا الحقل أيضا، الشيخ محمد الغزالي، الذي سجل موقفه ذاك في كتابه (دستور الوحدة الثقافية الإسلامية) وفيه قدم مشروعا من أربع نقاط محددة ليكون أساسا لما أسماه بالتصالح والإخاء بين السنة والشيعة.

-                     الأمر الثاني أن الدعوة إلى وحدة الصف، لا يراد بها دمج مذاهب المسلمين في فرقة واحدة، ولا حتى إلغاء المذهبية. وإنما هي تستهدف بالدرجة الأولى توفير سبيل للتعايش الكريم بين أتباع المذاهب في غير خصومة أو تعصب، والتعامل مع هذه المذاهب بحسبانها مدارس فكرية، وليست "ميليشيات" متناحرة. وهي تستهدف أيضا فتح الأبواب أمام أهل العلم من كافة الأطراف، للتلاقي ومواصلة الحوار، لتصحيح المعارف و المعتقدات.

ودون الدخول في التفاصيل، فإنني أحسب أن السعي إلى وحدة الصف الإسلامي ينبغي أن يميز بين فرق تتفق في أصول الاعتقاد وتختلف في الفروع، وهي التي يتعين علينا أن نركز جهود التوفيق والتقريب في نطاقها. وفرق أخرى تدعي انتماء للإسلام وقد يمتد اختلافها في الأصول، وهذه ينبغي ألا يفرط فيها حتى لا توظف لصالح الغير، وإنما يتم التعامل معها على أساس سياسي وحضاري. وفي كل الحالات فإن رفض الاشتباك بين هذه المذاهب ينبغي أن يسبق أي دعوة للحوار أو التقارب.

إذا حاولنا تنزيل هذه الفكرة على الواقع، فقد نتدرج بالدعوة إلى وحدة الصف على النحو التالي:

-                     مستوى يوحد عنده الصف السني، بالأخص في الجنوب المتعلق بالحرب المستمرة التي يشنها السلفيون على المتصوفة.

-                     مستوى يتحقق في ظله التعايش والحوار و حسن الجوار بين المذاهب التي قلنا إنها لا تختلف مع أهل السنة في الأصول، أو من يسمون بأهل القبلة، وهم الشيعة الاثني عشرية أو الجعفرية، والزيدية في اليمن، والإباضية في عمان والشمال الإفريقي، وقاديانية لاهور بباكستان، الذين لا يؤمنون بنبوة غلام أحمد القادياني.

-                     أما الجماعات التي تنسب نفسها إلى الإسلام، وتختلف مع أهل القبلة في بعض الأصول، فصياغة العلاقة معها تحتاج إلى مناقشة وبحث جادين. فلا يقر ما فسد من معتقداتهم، مع التفرقة بين ما يمكن أن تحاسبهم عليه الأمة الإسلامية، وما ينبغي أن يوكل حسابه إلى الله سبحانه يوم الدين. ثم يقبلون بعد ذلك كأطراف في الواقع الإسلامي. ويدخل في نطاق هذه الجماعات: البهرة والإسماعيلية والقاديانية الآخرون، والنصيرية والدروز. وهي طوائف وفرق تتركز في شبه القارة الهندية، وفي سوريا ولبنان، وفي بعض الدول الإفريقية (جنوب إفريقيا في المقدمة).

وفي ترتيب الأولويات، فأحسب أن المستويين الأول والثاني يحتلان أولوية خاصة، وإن وحدة صف أهل السنة، ثم وحدة أهل القبلة، من أكثر الأمور حيوية في زماننا. فضلا عن أن المشروع الإسلامي لا يستطيع أن يسقط أو يلفظ أولئك المنسوبين إلى الإسلام – وعددهم بين سبعة وعشرة ملايين – وإنما يتعين على أهل النظر أن يتوصلوا إلى صيغة مناسبة للتعامل مع تلك الملايين، بحيث تحتوي تحت مظلة الإسلام في نهاية الأمر.

من يعلق الجرس في رقبة القط ؟

الأمر ميسور – من الناحية النظرية – فيما يتعلق بوحدة صف أهل القبلة، أهل السنة وإضرابهم. وتوصيات مؤتمر عمان تفتح الباب واسعا للتقدم في ذلك الاتجاه. وكما حسم الأمر بالنسبة للإباضية، فما الذي يمنع من حسمه بالنسبة للزيدية، أو الشيعة الاثني عشرية، طالما أن دعوة التصالح والتفاهم قد وجهت وأعلنت على الملأ.

وإذا عقد مؤتمر الفقه بعمان ندوات دورية، فليته يواصل مسيرته ويخصص بندا في جدول أعماله في كل مرة لتحقيق المصالحة والإخاء المنشودين مع بقية أهل القبلة، جماعة تلو الأخرى. وسلطنة عمان مؤهلة للقيام بهذا الدور الجليل، لأسباب موضوعية مفهومة، سواء فيما يتعلق بالزيدية أو بالشيعة الاثني عشرية.

والمؤكد أن الأزهر يستطيع أن يؤدي رسالته التقليدية في هذا المجال. وإن ألقى مجمع الفقه الإسلامي بجدة بثقله في هذه العملية، فخير وبركة. وإن بادرت إليها أي منظمة أخرى معنية من بين منظمات المؤتمر الإسلامي الستة عشر، فإنها – بهذه المهمة فقط – ستدخل التاريخ.

ولسنا مطالبين بأن نستكمل مختلف الحلقات والتفاصيل في سيناريو المشروع. وإنما يعنينا أن ينتبه الجميع إلى أن تبرئة الإباضية هي بداية الرحلة وليست منتهاها، وإن قضية وحدة الصف الإسلامي مسؤلية تنتظر من ينهض بها. وهي معلقة في رقاب كل العاملين في الحقل الإسلامي. وإنجازها يعد خطوة مهمة باتجاه إنجاز المشروع الإسلامي.

لقد علا صوت العقل وتجلى التسديد في دعوة المؤتمر للمسلمين جميعا لأن يواجهوا المستقبل على أساس من دعم الأصول المشتركة، وعلى مرونة وتسامح في شتى الفروع، معتبرين ما وقع في القرن الهجري الأول حدثا تاريخيا فحسب، ولا يسمح بامتداده إلى حاضر المسلمين ومستقبلهم، بل تجمد تجميدا كليا من الناحية العملية.

تلك هي الدعوة إلى تجاوز المراحل، التي أشرت إليها قبل قليل، بحسبانها من أهم ما صدر عن المؤتمر. فهي ليست فقط دعوة إلى التخلص من المرارات والأحزان القديمة، ولكنها أيضا دعوة إلى صرف الجهد من أجل الانعتاق من إسار الماضي، والتوجه بكل الجهد إلى صياغة الحاضر والمستقبل. وفي ظل ظروف كالتي نمر بها – والحال فيها معلوم ويغني عن كل سؤال – فإن الانشغال بالماضي وإحياء صراعاته، يعد جريمة لا تغتفر. وهو تعبير عن خلل منكور في الرؤية، وإشهار علني للعجز عن التعامل مع الحاضر والمستقبل.

لتبق دروس التاريخ، ولتغلق ملفات وقائعه وأحداثه، خصوصا تلك التي تثير جدلا عقيما، لا يقدم ولا يؤخر. وهو مما يدل في نطاق (العلم الذي لا ينفع) الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله منه.

وداء الاشتغال بمعارك الماضي أصيب به بعض أهل المذاهب، بقدر ما أصيبت به أشهر الحركات الإسلامية المعاصرة، فكما أن الأولين لم يتوقف جدلهم حول أحقية الإمام علي في الخلافة بعد وفاة النبي r وعدم شرعية خلافة أبي بكر، رغم أن الفصل في استحقاق أحدهما دون الآخر لن يغير من شيء ولن يضيف شيئا. كذلك الحركات الإسلامية،التي مازالت مشغولة بتصفية الحساب مع الحقبة الناصرية، والخوض في تفصيلات ما جرى في الخمسينيات والستينيات.

هذا التطلع إلى الخلف لا يبدد الطاقات في غير طائل فقط، ولا يحجب الرؤية الصحيحة للحاضر والمستقبل فقط، ولكنه يعوق النمو أيضا..

وكما أفسدت ملفات الماضي العلاقة بين أهل المذاهب الإسلامية، وخسر الجميع الكثير بسبب ذلك الإفساد، ودفعت أمتنا ثمنا باهظا لذلك كله. كذلك الحال مع الحركة الإسلامية، التي أدى تركيزها على ملفات الماضي وتجديدها الحديث عن الأمة التي خلت، إلى خسارتها لقطاع عريض من المثقفين والشبان، الذين تعلقوا بمرحلة المد القومي واعتزوا بها، في حين لم تتأثر هويتهم ولا أرضيتهم الإسلامية. وهي بهذا التركيز، ألحقت بمسيرتها ضررا آخر، من حيث أنها شغلت عن الإبداع الفكري الذي يخدم المستقبل، بتصفية حسابات الماضي.

وبسبب من عُقَد الماضي ورواسبه، فإن بعض الإسلاميين اشتبكوا في معارك غير مبررة مع القوميين، حتى تصور بعض غلاة الإسلاميين في الأرض المحتلة أن معركتهم ضد القوميين أهم من معركتهم ضد الاسرائليين.

وفي العام الذي سبق الانتفاضة، فإن جامعتي بير زيت وغزة، شهدتا معارك محزنة بين الطرفين، لابد أنها أثلجت صدور الإسرائليين كثيرا..

ولم يقف الأمر عند حدود خسارة الإسلاميين لقطاع عريض من العروبيين، وإنما ترتب على تلك الخصومة أن أصبح العروبيون أقرب إلى معسكر اليسار الماركسي، في حين أن مكانهم الطبيعي هو قلب معسكر الوسطية الإسلامية.

ومن يطالع كتاب الدكتور عصمت سيف الدولة، الذي صدر في عام 1986م، بعنوان (عن العروبة والإسلام )، يكتشف حجم وعمق الحضور الإسلامي في صلب التيار العروبي، الذي يعد الدكتور سيف الدولة أحد رموزه البارزة. ذلك أن الكتاب من أوله إلى آخره، يقف بالكامل على أرضية الإسلام، ويوجه نقدا مفحما ومريرا لكافة أطروحات المعسكر العلماني الذي ما انفك يحاول الاستيلاء على التيار العروبي، ساعيا إلى توهين صلته بالاسلام، خصوصا من خلال الترويج لمقولة فصل الدين عن الدولة، التي يصف الدكتور سيف الدولة دعاتها بأنهم (منافقون ). وقد فند مقولتهم، وهدمها، وفي فصل مطول من الكتاب، استغرق أكثر من 150 صفحة، عنوانه: (المنافقون ).

إن بين العروبيين والاسلاميين في بعض دول الخليج صراعا وحشيا مكتوما، تستخدم فيه أساليب الإبادة المعنوية والتشريد وقطع الأرزاق، وتدور رحاه في عدد من الوزارات التي تناوب المسؤولية فيها هذا الطرف أو ذاك، وتلعب الحسابات والمرارات القديمة دورا مهما في تفجير ذلك الصراع، الذي يصيب غرمه الجميع بدون استثناء، وهو أمر محزن بكل المقاييس.

إن الدعوة إلى تجاوز الصراعات القديمة وإغلاق ملفاتها، والانصراف بعقول وقلوب مفتوحة إلى الحاضر والمستقبل، هي مطلب لازم تقاس به إيجابية وصحة مناخ العمل العام. وهي ألزم بالنسبة للإسلاميين الذين لحقت ببعضهم مظالم فادحة، لم يستطيعوا ابتلاع مرارتها ولا إغلاق ملفاتها. حتى بدا أن هناك من شغلته جراح "الحركة" عن آفاق المشروع الإسلامي، الذي هو الأصل والأساس.

إننا بصدد دعوتين مهمتين، تمثلان خطوتين إلى الأمام، في زمن عنوانه (التقهقر)..

 


[1] الأستاذ فهمي هويدي، مؤتمر الفقه الإسلامي، سلطنة عمان، أبريل 1988م.

[2] الأستاذ فهمي هويدي، مصري كاتب، صحفي، شهير باهتماماته الإسلامية.

[3] هذا سهو من الكاتب لأن الدولة الرستمية استمرت من : 160 هـ حتى 296 هـ.

[4] يشهد لأبي إسحاق التراث الإسلامي الذي حققه أو دققه وراجعه، ومن ذلك أحكام القرآن للقرطبي، ونهاية الأرب في فنون الأدب، والمعجم المفهرس لألفاظ القرآن لمحمد فؤاد عبد الباقي، وغيرها...

أضف تعليقا

عدد التعليقات (0)