إسهامات فكرية

انطباعات زائر لتركيا

انطباعات زائر لتركيا

  • 140
  • 0

انطباعات زائر لتركيا

    يقول الله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الاَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوَ اذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ التِي فِي الصُّدُورِ) الحج 46. إن لم يكن للسفر فائدة إلا فهم هذه الآية وتطبيقها لكان الأمر كافيا وافيا، ولكنه أكثر وأثمر وأجدى.

    زرنا تركيا في شهر ماي من سنة 2013، دامت الزيارة ثمانية أيام كاملة وهي قليلة جدا، زرنا فيها 08 مؤسسات تربوية علمية، و 04 منظمات خيرية جماهيرية بالإضافة إلى متاحف وأماكن سياحية عديدة، كانت الزيارة فرصة سانحة للتعرف عن قرب على الواقع التركي، عن إنجازاته الحضارية المادية منها والمعنوية، والتعرف على تاريخه التليد بإنجازاته العثمانية وإخفاقاته الأتاتوركية، وعن عوامل القوة والسيطرة وعوامل الضعف والوهن، ولو أنَّ هذه المعرفة أَوَّلية لا ترقى إلى أن تكون أحكامًا نهائيةً، إلا أنَّها يمكن أن تكون انطباعات زائر، لعدة مؤسسات تربوية تعليمية مختلف المشارب والأوجه، ومؤسسات خيرية جماهيرية متعددة ومتنوعة، ويمكن أن ألخِّص هذه الانطباعات فيما يلي:

    1- كل من ينزل المطار الدولي باسطنبول أو يتجول في المدينة التاريخية العريقة، سيقف لا شك على حقيقة مفادها أن تركيا أصبحت من الدول الأكثر مزورا في العالم من حيث السياح أو المستثمرون أو طلبة العلم، أو غيرهم كل ووجهته كل ونيته، فقد أضحت الآن تركيا تحصي أكثر من 30 مليون سائح في السنة وهذا رقم كبير بالنظر إلى حجم السياحة العالمية، ونلحظ ذلك من خلال الاهتمام البالغ الذي أولته السلطة والدولة للسياحة من خلال توفير كل الخدمات الفندقة، النقل، التسوق، المزارات المتعددة، المتاحف ... وغيرها مما يجلب السائح ويوفر له الراحة والمتعة والرفاهية دون قيد أو شرط.

    2- أثناء زيارتنا للعديد من المؤسسات التعليمية الحكومية أو الخاصة أو الوقفية، وكذا المؤسسات الخيرية والمنظمات غير الحكومية، لا بد وأن تندهش لعامل مشترك يجمع بين الأنواع المختلفة وأحيانا المتناقضة، هو عامل الاعتزاز بالوطن التركي، فالكل يمجده والكل يسعى لأن يُذَكِّرك بماضي الدولة العثمانية والمدى الذي كانت تحكمه في العالم الإسلامي وتأثيرها في العالم ككل.

    معرض بانوراما من أهم المتاحف في تركيا يحكي قصة فتح القسطنطينة، يصف تركيا بمركز الأرض، وتركيا الفاتح هي التي فتحت حصونا في أوروبا استعصت على كل المحاولين، والفاتح لم يكن يحارب القسطنطينية وحدها بل كان يواجه كل العالم الأوروبي المسيحي، ولقد انتصرت عليها بقائد شاب عمره واحد وعشرون سنة.

    أين توجهتَ في إسطنبول تجد في الأماكن المرتفعة المشرفة على المدينة الكبيرة طولا وعرضا علما كبيرا لا يمكن أن يخطئه النظر، يشرف ويطل على الجميع مذكرا إياهم أنهم في بلد كبير هو تركيا.

    لا تكاد تسمع لغة غير اللغة التركية في التعليم أو الإدارات، فإذا أردت أن تعمل أو تتعلم عليك أولا أن تتعلم اللغة التركية، وإلا فاتخذ مترجما تركيا، صحيح أنه يمكن أن تلتقي ببعض من يقرض اللغة العربية أو الإنجليزية في المؤسسات أو في الأسواق، لكنك تضل دائما في حاجة إلى تعلم أو مترجم إلى اللغة التركية.

    أحد الإداريين الذين التقينا بهم عندما علم أننا من الجزائر قالها بكل فخر ودون تفكير، نحن نرى إلى الجزائر على أنها قرية أو بلدة من تركيا، فالكل يذكر أن تركيا هي القوة التي حكمت وخدمت العالم الإسلامي لسنين طويلة.

    كل هذا يجعلك تقتنع أن هؤلاء الناس وهؤلاء الإخوة يشعرون ـ أحيانا إلى حد الغرور ـ أنهم شعب قوي حري به أن يقود ويسود ليس فقط العالم الإسلامي بل الأرض قاطبة، فحري بنا أن نعتز بوطننا على ما فيه، وأن نذكر أبناءنا دائما بالإنجازات والنماذج الناجحة في التاريخ، فنذكر الرموز ونحتفي بهم ونقيم لهم المؤسسات والمتاحف ونجعل أبناءنا يفخرون بوطنهم وبتاريخهم وبلغتهم، ويحيون لخدمته ورفعته إلى العلياء.

    3- والحقيقة التي لا مراء فيها أنني غادرت تركيا وفي نفسي حنين إلى العودة إليها، وفي العقل كثير من الأسئلة التي أبحث عن الإجابة عليوأنت داخل المؤسسات التعليمية، وأنت في زيارة إلى المؤسسات المختلفة المتنوعة، وإلى المتاحف والآثار وأنت تستقل وسيلة نقل صغيرة أو كبيرة وأنت تتفسح في الساحات العمومية، وأنت تتفرج على القنوات الفضائية، وأنت تتصفح الجرائد، لا بد وأن تُصدم بواقع آخر غير الذي ألفناه في وطننا، الحرية المطلقة في اللباس وفي الصُّحبات وفي الحركات وفي التصرفات، وفي كل الأنواع ليس فقط بالنسبة للسياح الذي يملؤون المكان ذهابا وجيئة فسحة ومتعة، بل حتى الأتراك الذي يقدمون إلى إسطنبول على اختلاف مدنهم ومشاربهم، فلا يمكن أن تمنع أو تتدخل لتبدي امتعاضك أو انزعاجك من تصرف ما أو منظر ما، الكل يسمح للكل أن يفعل ما يريد، تصرف يدل على التدين أو تصرف يدل على عدم التدين، فيمكن أن تلاحظ الناس يتوجهون إلى مساجد للصلاة يوم الجمعة كما يمكن أن تشاهد الناس في نفس الوقت جالسين في مقهى أو مكان يحتسون الخمر، ولا يمنعهم أحد عن ذلك ولا يفكر في ذلك إطلاقا، جمعيات دينية وجمعيات لا دينية، مؤسسات علمانية ومؤسسات دينية قرآنية، منظمات إغاثية تعلن التزامها بالإسلام تعمل في أصقاع العالم ومنظمات لا علاقة لها بالدين، الكل يدافع عن الحرية التي أصبحت قيمة عُليا أكبر من قيمة التدين نفسها التي يختلف عليها الناس ولكنهم لا يختلفون على قيمة الحرية، فيمكن أن تتصور نفسك في بلد أوروبي ولكنه ينتمي إلى العالم الإسلامي.

    4- أثناء زيارتنا للمشاريع المختلفة لا حظنا ارتباطها بالدين توجها وعاطفة، فهي تعمل من أجل رضا الله تعالى، وهي تتحدث عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي تتحدث عن فريضة فعل الخير وخدمة الناس والإحسان إلى المحتاجين، وهي ترى أن العمل الخيري كله مرتبط بالوقف حتى أننا سمعنا عن وقف خاص بالطلبة والتلاميذ المحتاجين تديره منظمة علمانية، وأنت ترى هذا التقارب في الوجهة والخطاب والعاطفة، ولكن المتأمل سيقف على حقيقة الاختلاف الواضح  الشاسع في معنى التدين والالتزام.

    بعض المنظمات تهتم لموضوع الصلاة وتضع مكانا واضحا، وتهتم بذلك في الزيارات والضيوف وغير ذلك، والبعض الآخر لا يهتم بذلك ويراه من العبادات الخاصة التي يقوم بها الفرد لوحده ويحاسب عليها لوحده، وتلحظ ذلك حتى في المؤسسات التعليمية.

    التعليم المختلط في سائر المؤسسات التعليمية، فالبعض يرى إليه على أنه حتمية واقعية يسعى إلى تغييرها، والبعض الآخر يرى أنها واقع اجتماعي لا يمكن القفز عليه، والحكمة تقتضى أن نساير الواقع ولا نصادمه، والغريب أن المؤسسة الوحيدة في التعليم العام التي وجدناها غير مختلطة هي ثانوية إمام خطيب الحكومية.

    الإطار العامل والمدرس في المؤسسات التعليمية مختلف المشارب والمواصفات، فتجد فيه المرأة السافرة التي تدرس كل المواد التعليمية حتى الرياضة البدنية، دون أن تجد الإدارة الواقفة على المؤسسة في ذلك حرج، مع أنك تجد بعض المؤسسات التي تُقِرُّ بضرورة أن يكون المعلم قدوة ويسعون إلى ذلك على أنهم في مرحلة التدرج، وأنهم إذا وجدوا الكفاءة مع الالتزام فذلك أولى في التوظيف.

    المناهج التعليمية في بعض المؤسسات التابعة لتيارات دينية، لا تدرس القرآن أو أي مادة دينية، بل تدع الأمر إلى الطلاب في أنشطتهم إذا رغبوا في ذلك، أما بعضها فيُخصِّص حصصا محددة للتربية الإسلامية وللقرآن الكريم، ويقومون بأنشطة داخل المؤسسة لتعليم الصلاة والآداب الإسلامية، منطلق الأول أنه لا نأمر بالصلاة أو الحجاب إلا من طلب أن نعلمه ذلك، ومنطلق الثاني أن الفرائض يجب أن تُعلم للناشئة ولا نجبرهم على ذلك.

    من خلال هذه الملاحظات نقف على واقع تركي فيه إسلام نرى ثماره في التدين والالتزام، وفيه إسلام آخر نسمع عنه ونرق ونخشع لسماعه ولكن لا نكاد نرى ثماره في التدين والالتزام حتى أننا نشك أحيانا أن هناك معاني أخرى للإسلام لم نستطع فقهها أو أن هناك إسلاما من نوع آخر يُشبه إلى حد ما التدين المسيحي الناعم أو الالتزام الصوفي المغشوش الذي يتحدث عن الإسلام في العواطف والرقائق ويبتعد عنه في الفرائض والالتزامات، فالعاطفة يجب أن تجمع الجميع، أما الالتزام والتطبيق فهو أمر فردي متروك بين العبد وربه، وهنا بالضبط مربط الفرس الذي يفصل بين الفكر الإسلامي الذي نشأنا فيه ونُنشئ أبناءنا عليه، وبين واقع بعض التيارات التركية، التي تفرق بين الاعتقاد والقناعة والمواقف، فحري بنا أن ندرس هذا الفكر دراسة وافية نقف من خلالها على نقاط الاستقامة ونقاط الانحراف.

    5- غالب المنظمات في تركيا تسعى إلى أن يكون لها امتداد، فروع في الدولة وفروع في العالم، فروع في العالم المتقدم وأخرى في العالم المتخلف، فروع في العالم الإسلامي وأخرى في غيره، تُحس قسرا أن القوة التي كانت تمنع الأتراك في مرحلة ما من التواصل مع العالم الإسلامي تركت آثارا كبيرة فجعلت رد الفعل أقوى بكثير مما خُطِّط له، فالكل يسعى إلى الدعوة وفعل الخير، فتحصي تركيا أكثر من 35 ألف طالب من كل أصقاع العالم، فهذه ثانوية حكومية تستقبل طلبة من كل البلدان، بهدف فعل الخير وتسويق النموذج التركي في سائر بلاد الأرض، وهذه مؤسسة ناشئة لا زالت تعمل على تثبيت نفسها في الميدان المحلي والوطني، وضعت خارطة للعالم تبين المناطق التي أسست فيها فروعا والمناطق التي تفكر في أن تؤسس فيها فروعا، التفكير في العالمية أمر مسلَّمٌ به لدى غالب المنظمات بدافع فعل الخير وخدمة الآخرين ولو كانوا غير مسلمين أو بدافع التسويق لفكرها، وهذا بُعد مهم جدا نستفيد منه كثيرا في الإعلاء من همة العاملين في حقل التربية والتعليم وفعل الخير.

    أخيرا، هذه خواطر من الزيارة التركية يمكن أن يكون عليها بعض التحفظات، ولكن الذي أريده من كل إنسان مسلم فعال أن يكون سفره فرصة للاستفادة من كل التجارب المحلية والعالمية، وأن يكون ديدنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم «الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها»، وأن يكون تعامله مع التجارب لا تعامل النسخ واللصق أي الاستيراد والزرع دون النظر إلى الحيثيات والظروف المحيطة بها، بل أن ينظر إلى كل تجربة نظرة الفاحص الناقد، يأخذ من كل عمل بشري مهما كان ممتازا إيجابياته فيثمنها ويزيد عليها، ويتنبه إلى النقائص والسلبيات فيتجنبها مهما كان التسويق قويا والإعلام ساطعا مبهرا، فعُمق الأشياء هو الذي يُعلي من التجربة أو يحُط منها.

    والحقيقة التي لا مراء فيها أنني غادرت تركيا وفي نفسي حنين إلى العودة إليها، وفي العقل كثير من الأسئلة التي أبحث عن الإجابة عليها، لعلي أظفر في يوم من الأيام من يجيبني عليها أو يحملني إلى من يجيب، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

أ.بكير حموده حاج سعيد

أضف تعليقا

عدد التعليقات (0)