إسهامات فكرية

تربية الأبناء في زمن اليسر

تربية الأبناء في زمن اليسر

  • 150
  • 0

سؤال أساسي يسأله كل إنسان سوي: هل خلق الله الإنسان ليتنعم أم لكي يعمل؟ هذا السؤال البديهي في مبناه العميق في معناه، هو الذي يسيِّر حياتنا كاملة نحو العمل وعمارة الأرض، أو نحو التنعم بالنعم وفقط، فجاء الجواب القرآني الشافي للإنسان السوي الذي أدرك نعم الله عليه من خلال الخلق ومن خلال تسخير كل الكون له: (وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص77)، فالمؤمن الحق يعمل من أجل الآخرة الباقية الدائمة دون أن ينسى نصيبه من الدنيا الآنية التي يعيش فيها.

    ما نصيب أبنائنا من هذه القضية...، الابن الذي خرج إلى الوجود فاستضافته نعم الله التي لا تعد ولا تحصى، ونشأ وترعرع في خيرات لم يذق طعم عُشُرها أبواه أو أجداده، ما جوابه عن هذا السؤال؟ وكيف يتعامل مع هذه النعم؟ وهل علينا كمربين أن ننشئ أبناءنا على اليُسر الوافر؟ أم نُذيقهم علقم العُسر الذي عشناه طوعا وكرها؟

    الخيرات ووسائل الراحة والعيش والرفاهية بالنسبة للأبناء مثل الماء للنبات، فالماء مفيد بل ضروري لنمو النبات، فبدونه يذبل النبات ثم يجف ويموت، والإكثار منه يجعله يتعفن ثم يكون عديم الثِّمار سيِّئ المظهر؛ كذلك الأبناء، نفس وسائل الراحة والعيش الرغيد يمكن أن تجعل منهم أناسًا أسوياء كما يمكن أن تجعل منهم أناسًا فاسدي الطباع عديمي الهمَّة متواكلين متكاسلين، الأمر كله يدور حول الكيفية والمقدار.

    بعض الحكماء يقولون: "كثرة الوسائل تفسد العزائم"، وعلماء النفس يؤكدون أن الطفل الذي يمكن أن يبدع هو الطفل القلق المتوتر، الذي يُقلقه أمرٌ ما فيسعى إلى دفع ذلك القلق والتوتر بالاستجابة الصحيحة لذلك المثير، فيَنشط العقل وتستعر العزيمة وتكبر الهمَّة فتتَّجه شخصيته نحو النماء الصحيح كإنسان منتج فاعل نافع لنفسه ومجتمعه، لهذا يقولون "الحاجة أم الاختراع"، فإذا انتفت الحاجة انتفى الاختراع؛ فإذا وفرت أيها المربي كل وسائل الراحة والعمل، وكل ما يمكن أن يكون محفزا لابنك من أجل نيل مرتبةٍ ما أو إنجاز عملٍ ما، إذا وفرت له كل هذا فإن العزيمة لن تنهض والهمة لن تكبر، وقديمًا قال الشاعر الحُطيئة وهو يذم ذما لاذعا أحد خصومه:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها           واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

    فلا أسوأ من أن يُنعت الإنسان بأنه عديم الجدوى معتمد على غيره ولو كان والداه، لا يستطيع أن يدفع الضر عن نفسه أو أن يجلب لها الخير.

    فابنك أيها المربي إذا أردت به خيرًا، اسع جاهدا أن تجعله منتجًا معتمدًا على نفسه باتباع الخطوات التالية:

    1  لا تدعه يألف نوعا واحدا ناعما من الأكل أو الشرب أو اللباس، بل تعمد أحيانا أن تنقص بعض الأمور حتى يتعود على الخشونة ويقتنع بفعل الواقع أن الدنيا لا تدوم على حال، "اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم".

    2  إذا أردت أن تساعد ابنك على النهوض العلمي وبناء شخصيته، فاهتم بوسائل التعليم أكثر من وسائل العيش، لأن الاستثمار في وسائل التعلم يورث العلم، أما وسائل الراحة فتورث الكسل والتراخي.

    3  كلما كثرت أسئلة الإنسان كلما سعى للإجابة عنها وكلما كبرت تحدياته كلما كبرت همته، فاترك ابنك يعيش مشاكله ولو كانت مفتعلة منك ليندفع إلى البحث عن حلول وبدائل.

    4  صاحب ابنك ليتعرف على المعدومين والمعوزين في كل مكان، فإن ذلك يجعله مدركا لقيمة النعم التي يمتلكها، ويزيد من حالة التعاطف مع الضعفاء والمحتاجين فيسعى جاهدا لمساعدتهم ويبتعد عن خدمة نفسه.

    5  عرِّف ابنك على الماضي الذي عاشه الأجداد من العسر وشظف العيش، لأن ذلك يجعله مدركا بأن حال اليُسر والنعم والخيرات ليست هي الأصل، بل هي مرحلة كانت قبل اليوم غائبة ويمكن أن تزول يوما ما.

    أخي المربي نسعى جاهدين على أن نُبعد أبناءنا عن التواكل والتكاسل والاستهلاك، ونُنَشِّئهم على الإنتاج والنفع وخدمة العقل والروح، "فقيمة المرء ما يتقنه لا ما يملكه".

أضف تعليقا

عدد التعليقات (0)