إسهامات فكرية

الحب والإخاء في مهرجان الوفاء

الحب والإخاء في مهرجان الوفاء

  • 147
  • 0

الحب والإخاء في مهرجان الوفاء

الدكتور عبد الرزاق قسُّوم

تبارك الذي أنعم على العلماء العالمين، بنعمة القبول، فثبتها حبا وإخاء، في قلوب أتباعهم الأخلاء والأصفياء، وسبحان الذي وحّد قلوب المؤمنين على الإيمان الصادق، فجعلها تنبض صفاء ووفاء لمن صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

إن هذا الحب الصاعد والنازل بين العلماء الأصفياء والمريدين الأوفياء، وهو الذي كان الجامع المشترك الأعظم، في مهرجان الوفاء الذي انتظم في معهد الحياة بواحة "القرارة" الخضراء بجنوبها الجزائري الخصيب أيام 4 و5 و6 جمادى الأولى 1430هـ الموافق لـ 29 و30 و1 ماي 2009م، فكان موعدا فريدا من نوعه تجلت فيه نتائج الإرادة الصادقة التي يبنيها الإيمان والمواطنة الصالحة التي يصنعها القرآن والنهضة العلمية التي يشترك في إنجازها صناع الحياة من الشيوخ والكهول والشبان.

كان مهرجان الوفاء، الذي نسجت فصوله جمعية الحياة بالقرارة حدثا متميزا، ناهضا بالحب في أسمى معانيه وفائضا بالتضامن الشعبي في أسخى أياديه، يجلل ذلك كله إخصاب فكري، يزين مشهده ويقويه.

لقد أنستنا خصوبة مهرجان الوفاء للعلماء وأهل القرآن مرارة القحط في بريان وما جره على وطننا الواحد وديننا الموحد من عار ودمار بسبب التمرد والعصيان.

إن مهرجان الوفاء درس عملي يقدم للجزائر العميقة على جميع مستوياتها، مفاده أن كل عمل صادق يتم بحكمة، وفي صمت ويتولاه العلماء العاملون بعلمهم ويسنده الشبان الواعون بفهمهم، بعيدا عن الشعارات المظلومة، والإيديولوجيات المسمومة، سيكتب له النجاح والفلاح ويدر على شعبه ووطنه كل سؤدد وصلاح ولسائل أن يسأل ما الذي وحد الناس على الوفاء في القرارة وهم إباضية ومالكية فصنعوا المشهد الشعبي الجليل وقدموا للعالم المنظر التضامني الجميل، وما الذي فرقهم في غرداية وفي بريان وهم ينتمون جميعا إلى نفس المذهبين ويعيشون على تلال الواديين وهضبات النخيل في الواحتين.

إنه الدين وإنها السياسة فالتدين الصحيح يصنع السياسة الرشيدة فيتعانق الاثنان في قلب المواطن الواحد ليصنعا منه المواطن الصالح المصلح، فإذا غاب التدين الواعي المرصوص، تسلل التسيس الواهي المنقوص، فيحدث السلوك المعتل الميئوس، والمواطن المختل الممسوس، وذلك هو الفرق بين المشهد الإصلاحي الرائع في معهد الحياة والسلوك الإفسادي الضائع، في بريان على الشوارع والطرقات.

ويخطئ من يعتقد أن ما تحقق في القرارة هو نتيجة عمل شخص واحد، أو مذهب واحد أو عام واحد بل هو عمل تشابكت في نسجه أجيال وطوائف ومناهج فالمهادون الأولون في الشمال والجنوب هم بناة هذا المجد ...والحكماء والعقلاء في المذهبين المالكي والإباضي هم مهندسو هذا السد والعاملون بعلمهم من الصالحين المصلحين هم صانعوا هذا المد.

وما الشيخ شريفي سعيد بن الحاج المعروف بالشيخ عدون _رحمه الله_ الذي أقام معهد الحياة، مهرجان الوفاء لعلمه وجهاده إلا غصن في الشجرة الإصلاحية الباسقة النماء، وإن هو إلا النخلة السامقة في دوحة الإسلام الغناء، وما كانت القرارة لتقيم له هذا المهرجان الوطني العظيم الناجح بجميع المقاييس وما كان الجزائريون على اختلاف طوائفهم لينفروا خفافا وثقالا نحو مدينة القرارة جاعلين منها قبلتهم الثقافية، من تلمسان إلى تمنراست لولا إيمان يحدوهم بأهمية الحدث، وحب يعلوهم بقيمة المحتفى به.

والحقيقة أن الاحتفال بالشيخ عدون إن هو إلا احتفال بحلقة من سلسلة ذهبية إصلاحية ثمينة انتظمت حلقاتها في علماء أعلام هم الشيخ عبد الحميد بن باديس، الشيخ البشير الإبراهيمي، والشيخ إبراهيم بيُّوض، والشيخ إبراهيم أبو اليقظان وصحبهم من الشمال والجنوب، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فصدقهم شعبهم وأحبهم حب الوفاء المقتنع بعلمهم وعملهم، فهم كما يصفهم الشاعر الملهم الصديق الدكتور محمد صالح ناصر ابن معهد الحياة، وباعث الحياة في شرايين جزائرنا الحبيبة، يقول عن هؤلاء العلماء:

تاج الرجولة والتقى أوصى بها
أكرم بها لذوي العلوم مهـابة

 

الهادي وعنوان الشهامة والفحولة
نور على نور، وفضـل للفضيلة

إلى أن يقول:

العلم رأس شامخ لا ينحني
العلم عزة أنفس تأبى التذلل
العلم نور تجتـليه قنـاعة

 

لذوي النفوذ لقاء فخر أو مقولة
للسعـادة والمعـالي والفضيلة
ويد هي العليـا وأفعـال جليلة

إن هذه المعاني السامية، التي تحلى بها علماء الإصلاح الوطني في الشمال والجنوب هي التي أعادت إلى القرارة هذه الأيام على أيدي الخلف ما حققه السلف في الثلاثينيات يوم احتفلوا بختم الشيخ عبد الحميد بن باديس للقرآن الكريم في موكب وطني بهيج شبيه بمهرجان الوفاء وتجدده في مناسبات عديدة، كالاحتفال بختم الشيخ بيُّوض للقرآن الكريم وهكذا عودنا شعبنا، على أن لا ينقاد إلا باسم الدين، للعلم والعلماء، وليس كالعلم والعلماء لشعبنا مقادة وقيادة.

لذلك لم نعجب للإقبال الجماهيري الوطني على مهرجان الوفاء، احتفاء ووفاء لرموز الفكر الإصلاحي، من أمثال الشيخ بيوض، والشيخ عدون الذين تبنيا هذا المنهج العميق الذي تغلغل في عقول وقلوب جماهيرنا فانعكس على سلوك الجميع بذلا وعطاء وبناء ووفاء، وما هذه الحشود الوفية السخية، إلا التي وعت بفضل علمائها معنى العلم الملتزم بقضايا الوطن والأمة، كما آمنت بخلق العالم الذي كان يمشي في الناس صلاحا وإصلاحا وأصالة وانفتاحا.. وذلك هو التجسيد للعلم الفصيح والتدين الصحيح.

وما كان لمعهد الحياة هذا المَعْلَمْ العلمي الثقافي الشامخ، وما كان له ليتربع وسط المدينة، فيطل عليها من جميع جوانبها، وما كان لمعناه أن يسكن في سويداء قلوب الجماهير، فيُفيض عنها حبا كالنبراس، وسلوكا متسامحا بين الناس لولا جهد إنساني وجهاد علمي يسيجهما إيمان رباني.

إن هنالك لحظات تعجز فيها الكلمات أمام فلسفة المعنى، وهناك مناسبات تتداخل فيها الأزمنة والأجيال، ومن هذه اللحظات والمناسبات، لحظات ومناسبة مهرجان الوفاء بالقرارة ...فقد تشابكت الأزمنة يومها، وتعانقت الأجيال لحظتها، وانصهر الجميع في زمن الإسلام والجزائر، وتلك هي الحقيقة الخالدة.

فإلى البناة من العلماء المجاهدين، نطلب شآبيب الرحمات جزاء ما غرسوا وما شيدوا وإلى المريدين من الأوفياء المثبتين للواء التضامن والتسامح في مهرجان الحب والوفاء، ندعو بمزيد من الثبات على المبادئ والقيم، والحفاظ على المكارم والذمم، آملين أن تعم هذه المعاني باقي أنحاء وطننا في الوفاء لمجاهديها وعلمائها وشهدائها، فلا نصدم بما صدمنا به من الإقبال المحتشم لمهرجان العالم العامل، مولود قاسم نايت بلقاسم الذي سيظل رغم خذلاننا علما شامخا باسم الدين وباسم العلم.

أضف تعليقا

عدد التعليقات (0)