إسهامات فكرية

المضاربة في العملات الرقمية في ميزان الفقه الإسلامي

المضاربة في العملات الرقمية في ميزان الفقه الإسلامي

  • 2764
  • 1

المضاربة في العملات الرقمية في ميزان الفقه الإسلامي

أ.د خالد محمد بابكر

 

لا تتناول المداخلة إنتاج العملات الرقمية بالتعدين ولا التعامل بالعملات الرقمية لشراء بضاعة أو بيعها بها، فهناك من أجازها للضرورة ،لأن التحريم فيه تحريم وسائل وليس تحريم مقاصد، وإنما تتناول المداخلة المضاربة في أسعار العملات الرقمية، حصرا، وهي شراء العملة وانتظار ارتفاع سعرها وبيعها من أجل ربح الفارق بين السعرين.

العملات  الرقمية أو العملات الإلكترونية: هي رصيد مالي مسجل إلكترونيا على بطاقة ذات قيمة مخزنة أو جهاز آخر، تسمح بنقل القيمة على شبكات الحاسوب، ولا سيما شبكة الإنترنت، ولها خصائص مماثلة للعملات المادية، فهي تسمح بالمعاملات الفورية ونقل الملكية، وليس لها وجود مادي كالعملات الورقية أو المعدنية.

الحكم الشرعي للمضاربة في العملات الرقمية

ذهب أكثر الفقهاء إلى تحريم وبطلان المضاربة في العملات الرقمية واستدلوا بأدلة أهمها ما يأتي:

أولا: إن من شروط الأموال أن تكون سلعا أو منافع أو نقودا فما هي هذه العملات؟ فإن قلنا إنها نقود، قلنا إن للنقود شروطا لابد منها وهي:

  • أن تكون وسيطا للتبادل
  • أن يتعارف الناس على تداولها
  • أن تكون مستقرة في أسعارها غالبا
  • أن يكون لها غطاء من ذهب أو اقتصاد دولة معينة
  • أن تكون لها جهة معيّنة تضمن قيمتها
  • أن تكون لها جهة قضائية يتحاكم إليها المتنازعون

وبالنظر إلى العملات الرقمية نجد أنها تتوفر على بعض شروط النقود والعملات، ككونها وسيطا للتبادل، وكونها عملة متعارف عليها بين الناس، و لكن الشروط الأساسية الأخرى غائبة فهي:

  •  ليست مستقرة في أسعارها بل هي متذبذبة في أسعارها، وقد تفقد نصف قيمتها بين عشية وضحاها.
  • ليس لها غطاء من ذهب أو اقتصاد دولة معينة.
  • ليس لها جهة معينة تضمن قيمتها.
  • ليس لها جهة قضائية يتحاكم إليها المتنازعون.

فإن لم تكن هذه العملات نقودا شرعية، فهل هي سلع أو منافع، والجواب أنها ليست لا سلعا ولا منافع، فهي إذن ليست مالا متقوما يصلح للتبادل والتملك.

ثانيا: إنَّ عدم استقرار أسعار العملات الرقمية، وتذبذبها، وارتفاعها الجنوني، وانخفاضها من دون أسباب اقتصادية، أو سياسية أو بيئية موضوعية، ووجيهة ،تجعل من سوقها ناديا للقمار لأن السبب الرئيس في ارتفاع أسعارها، هو الطلب الجامح في شرائها، ومن ورائه الطمع البالغ في الربح، بالمضاربة في أسعارها. والواقع المشاهد يوميا أصدق دليل على ذلك، فعملة البيتكوين مثلا، ابتدأت بحوالي 300 دولار ثم ارتفعت إلى 2000 ثم إلى 20000 ثم انخفضت إلى 9000 ثم ارتفعت إلى50000 ثم نزلت إلى  42000  ثم ارتفعت لتصل إلى  60000 دولار.

وعملة أخرى و هي اثريوم وصلت عام 2017 إلى 319 دولار ثم سقطت في يوم واحد إلى 13 دولار.

ولا يدري كثير من شبابنا الذين يتشدقون بأنهم يعلمون طرق الاستثمار في هذه الأسواق، ومتي يشترون ومتى يبيعون، فإني أقول لهم: "مثلكم كمثل نملة دخلت في قطار سريع و أرادت أن تُغيّر وجهة سيره" فهناك من يتحكم في زمام هذا السوق بأمواله الضخمة فهو يقرر ارتفاعه ونزوله والاستفادة منهما عن طريق الدعاية والإشاعة، بما يملك من وسائل إعلامية مسخرة لذلك. فمثلا الصين قررت فجأة تجريم التعامل بالعملة وتعدينها فنزل سعر البيتكوين 10 في المئة وخسرت ما قيمته 2000 مليار دولار وهو ما يعادل ميزاية دولة كالجزائر لمدة 30 سنة، وشخص آخر وهو إيلون ماسك صاحب شركة تسلا، أطلق قرارا أن يتخلص مما لديه من عملة بيتكوين، فنزل سعرها في السوق نزولا فاحشا.

بعد كل هذا ألا تزال أيها الشاب المقامر مصرًّا بأن هذا استثمار وليس قمارا؟؟

فإذا علمت ما يقرره الاقتصاديون في العالم بأن هذا قمار فالحكم الشرعي واضح بأنه سحت و حرام  ودليل ذلك ، قوله تعالى ﴿يَآ أَيـُّهَا الذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاَنصَابُ وَالاَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّن عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُّوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُم عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلَ اَنتُم مُّنتَهُونَ(91) ﴾ سوة المائدة.

ثالثا: المال مال الله والمسلم مستخلف في هذا المال، فالواجب تجاه المال هو استثماره في مشاريع انتاجية تحقق دورة اقتصادية، وكل دورة اقتصادية هي بالضرورة دورة اجتماعية، لِما تحقّقه من تقديم انتاج للسلع والخدمات، وما تقدم من فرص للعمل، والزكاة، والصدقات، والأوقاف، وما تحارب من عطالة وبطالة. فماذا يقدمه المقامرون في أسواق العملات الرقمية من قيمة حقيقة مضافة لمجتمعهم؟ الجواب لاشيء بل إنهم يأخذون من الاسثمار الحقيقي المنتج للثروة إلى الاقتصاد الوهمي والقمار، فيزيدون بذلك بطالة إلى مجتمعاتهم، بتعطيلهم لدور رأس المال في الإنتاج، وتهريبا للعملة خارج أوطانهم ليأخذها غيرهم.

رابعا: إفساد عقول الشباب بهذه الأرباح السريعة، التي لا يقابلها جهد، فيختل بذلك ميزان العدل في الأجور، فلا يرضى الشاب بعمل فيه جهد يأخذ فيه مالا مكافئا لجهده، ولا يقبل بتلك الأجور ولو كانت عالية، لأنه وجد في القمار أضعاف ذلك، والقصة تعيد نفسها بما حدث مع شركات التسويق الشبكي، فقد خرج كثير من الشباب من مناصب عملهم، تدفعم أوهام الربح السريع فما وجدوا بعد حين إلا السراب. فليعلم هؤلاء الشباب أن المعادلة في القمار هي: " كل ربح يقابله خسارة الأطراف الأخرى" فلو اجتمع على طاولة قمار أربعة أشخاص ودفع كل واحد منهم خمسة ملايين سنتيم وربح القمار واحد منهم، فأخذ عشرين مليونا، فهو قد أخذ خسارة الثلاثة الآخرين.

خامسا: العقوبة الدنيوية للمقامرين في العملات الرقمية، وإني أراها في الحالة النفسية التي يعيشها هؤلاء الذين يعتمدون على الحظ والمصادفة في كسبهم، فهم طوال يومهم في قلق مستمر، وتوتر، تسبب أمراض القلب والشرايين، فهم في متابعة آنية  لمؤشرات الأسواق، يرونها في أوقات راحتهم وأكلهم ونومهم، وربما في صلواتهم، فإذا ارتفعت استبشروا وإن نزلت ارتفع ضغط دمهم وطار نومهم والمسلم ما خلق لهذا الشقاء.

لكل تلك المفاسد الجسيمة، فإن الحكم فيه بالنظر إلى المآلات الضررية على الفرد أولا، وعلى المجتمع والوطن ثانيا، ذهب الفقهاء إلى تحريم المضاربة في أسعار العملات الرقمية. ومن حصل على شيء منها فليتب إلى الله تعالى، وليتخلص منها عن طريق التصدق بها على الفقراء على نية التخلص، فليس فيها أجر. والله تعالى أعلم.

 

للتفصيل أكثر يمكن الاستماع إلى الدرس الذي ألقاه الدكتور حول هذا الموضوع في مسجد المنار، وهو متاح في موقع مسجد المنار

أضف تعليقا

عدد التعليقات (1)

  1. ايمان المقبالي منذ 9 أشهر

    ماذا عن التداول في سوق الفوركس اي العملات الاجنبية بمنصة تداول اسلامية معتمدة لدى جماعة المسلمين ؟؟ ربع المسلمين مهتم بهذا المجال ومنكب عليه دراسة و تجارة فكيف الامر؟؟ بعد دراسة التداول لمدة عام والعمل بحساب بريدي عادي ولا يشتمل المجال لا على سواب ولا رافعة مالية ولا خيارات ثنائية ولا عملات رقمية .. كل هذه طرق مشبوهة واجتمع على تحريمها من جماعة المسلمين.. فقط تداول محض و بجهد فردي و اجتهاد و تحليل لاخبار الدول والاسواق المالية والبورصات.. من فضلكم. حتى التداول في الذهب سمعنا انه محرم لانه الذهب بالذهب؟؟؟؟؟ السنا نشتري حلي الذهب لزوجاتنا وبناتنا بالنقود؟؟ ارجو الجواب الكافي الشافي